الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
و{عند الله} ظرف متعلق بكانت والعندية عندية تشريف وادخار أي مدخرة لكم عند الله وفي ذلك إيذان بأن الدار الآخرة مراد بها الجنة.وانتصب {خالصة} على الحال من اسم كان ولا وجه لتوقف بعض النحاة في مجيء الحال من اسم كان.ومعنى الخالصة السالمة من مشاركة غيركم لكم فيها فهو يؤول إلى معنى خاصة بكم.وقوله: {من دون الناس} دون في الأصل ظرف للمكان الأقرب من مكان آخر غير متصرف وهو مجاز في المفارقة فلذلك تدل على تخالف الأوصاف أو الأحوال، تقول هذا لك دون زيد أي لاحق لزيد فيه فقوله: {من دون الناس} توكيد لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الخبر ومن قوله: {خالصة} لدفع احتمال أن يكون المراد من الخلوص الصفاء من المشارك في درجاتهم مع كونه له حظ من النعيم.والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه للاستغراق لأنهم قالوا: {لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا} [البقرة: 111].وقوله: {فتمنوا الموت} جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط وهو أن الدار الآخرة لهم وجزائه وهو تمني الموت أن الدار الآخرة لا يخلص أحد إليها إلا بالروح حين تفارق جسده ومفارقة الروح الجسد هو الموت فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم كما قال عمير بن الحمام رضي الله عنه: وارتجز جعفر بن أبي طالب يوم غزوة مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله: وقال عبد الله بن رواحة عند خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين: وجملة {ولن يتمنوه أبدًا} إلى آخره معترضة بين جملة {قل إن كانت لكم الدار الآخرة} وبين جملة {قل من كان عدوًا لجبريل} [البقرة: 97] والكلام موجه إلى النبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إعلامًا لهم ليزدادوا يقينًا وليحصل منه تحد لليهود إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم.وقوله: {بما قدمت أيديهم} يشير إلى أنهم قد صاروا في عقيدة مختلطة متناقضة كشأن عقائد الجهلة المغرورين فهم يعتقدون أن الدار الآخرة لهم بما دل عليه قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91] وقولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] ثم يعترفون بأنهم اجترأوا على الله واكتسبوا السيئات حسبما سطر ذلك عليهم في التوراة وفي كتب أنبيائهم فيعتذرون بأن النار تمسهم أيامًا معدودة ولذلك يخافون الموت فرارًا من العذاب.والمراد بما قدمت أيديهم ما أتوه من المعاصي سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام، فقيل عبر باليد هنا عن الذات مجازًا كما في قوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] وكما عبر عن الذات بالعين في باب التوكيد لأن اليد أهم آلات العمل.وقيل: أريد بها الأيدي حقيقة لأن غالب جنايات الناس بها وهو كناية عن جميع الأعمال قاله الواحدي ولعل التكني بها دون غيرها لأن أجمع معاصيها وأفظعها كان باليد فالأجمع هو تحريف التوراة والأفظع هو قتل الأنبياء لأنهم بذلك حرموا الناس من هدي عظيم.وإسناد التقديم للأيدي على الوجه الأول حقيقة وعلى الوجه الثاني مجاز عقلي.وقوله: {والله عليم بالظالمين} خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته فهذا كقول زهير: وقد عدت هذه الآية في دلائل نبوة النبيء صلى الله عليه وسلم لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب هذه الآية.ولا يقال لعلهم تمنوا الموت بقلوبهم لأن التمني بالقلب لو وقع لنطقوا به بألسنتهم لقصد الإعلان بإبطال هذه الوصمة فسكوتهم يدل على عدم وقوعه وإن كان التمني موضعه القلب لأنه طلب قلبي إذ هو محبة حصول الشيء وتقدم في قوله: {إلا أماني} [البقرة: 78] أن الأمنية ما يقدر في القلب.وهذا بالنسبة إلى اليهود المخاطبين زمن النزول ظاهر إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت كما أخبرت الآية.وهي أيضًا من أعظم الدلائل عند أولئك اليهود على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت وأيقن أن بقية قومه لا يتمنونه لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على إبطال حكم هذه الآية، ويفيد بذلك إعجازًا عامًا على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز العرب عن المعارضة علم جميع الباحثين بأن القرآن معجز وأنه من عند الله.على أن الظاهر أن الآية تشمل اليهود الذين يأتون بعد يهود عصر النزول إذ لا يعرف أن يهوديًا تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة.وجملة {والله عليم بالظالمين} في موضع الحال من ضمير الرفع في {يتمنوه} أي علم الله ما في نفوسهم فأخبر رسوله بأن يتحداهم وهذا زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت، والمراد بالظالمين اليهود فهو من وضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالظلم. اهـ.
والإمام علي رضي الله عنه يدخل معركة حنين ويرتدي غلالة ليس لها دروع.. لا ترد سهما ولا طعنة رمح.. حتى إن ابنه الحسن يقول له: يا أبي ليست هذه لباس حرب.. فيرد علي كرم الله وجهه: يا بني إن أباك لا يبالي أسقط على الموت أم سقط الموت عليه.. وسيدنا حذيفة بن اليمان ينشد وهو يحتضر.. حبيب جاء على ناقة لا ربح من ندم.. إذن الذين يثقون بآخرتهم يحبون الموت. وفي غزوة بدر سأل أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يا رسول الله أليس بيني وبين الجنة إلا أن أقاتل هؤلاء فيقتلوني.. فيجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم.. وكان في يد الصحابي تمرات يمضغها.. فيستبطئ أن يبقى بعيدا عن الجنة حتى يأكل التمرات فيلقيها من يده ويدخل المعركة ويستشهد.هؤلاء هم الذين يثقون بما عند الله في الآخرة.. ولكن اليهود عندما تحداهم القرآن الكريم بقوله لهم: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين}.. سكنوا ولم يجيبوا.. ولو تمنوا الموت لانقطع نفس الواحد منهم وهو يبلع ريقه فماتوا جميعا.. قد يقول قائل وهل التمني باللسان؟ ربما تمنوا بالقلب.. نقول ما هو التمني؟ نقول إن التمني هو أن تقول لشيء محبوب عندك ليته يحدث. فهو قول.. وهب أنه عمل قلبي فلو أنهم تمنوا بقلوبهم لأطلع الله عليها وأماتهم في الحال.. ولكن مادام الحق تبارك وتعالى قال: {ولن يتمنوه أبدا}.. فهم لن يتمنوه سواء كان باللسان أو بالقلب.. لأن الإدعاء منهم بأن لهم الجنة عند الله خالصة أشبهة بقولهم الذي يرويه لنا القرآن في قوله سبحانه: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80)} سورة البقرة.وقوله تعالى: {بما قدمت أيديهم}.. أي أن أعمالهم السيئة تجعلهم يخافون الموت.. أما صاحب الأعمال الصالحة فهو يسعد بالموت.. ولذلك نسمع أن فلانا حين مات كان وجهه أشبه بالبدر لأن عمله صالح.. فساعة الموت يعرف فيها الإنسان يقينا أنه ميت.. فالإنسان إذا مرض يأمل في الشفاء ويستبعد الموت.. ولكن ساعة الغرغرة يتأكد الإنسان أنه ميت ويستعرض حياته في شريط عاجل.. لأنه في هذه الساعة والروح تغادر الجسد يعرف الإنسان مصيره إما إلي الجنة وإما إلي النار.. وتتسلمه إما ملائكة الرحمة وإما ملائكة العذاب.. فالذي أطاع الله يستبشر بملائكة الرحمة.. والذي عصى وفعل ما يغضب الله يستعرض شريط أعماله.. فيجده شريط سوء وهو مقبل على الله.. وليست هناك فرصة للتوبة أو لتغيير أعماله.. عندما يرى مصيره إلي النار تنقبض أساريره وتقبض روحه على هذه الهيئة.. فيقال فلان مات وهو أسود الوجه منقبض الأسارير.إذن فالذي أساء في دنياه لا يتمنى الموت أبدا.. أما صاحب العمل الصالح فإنه يستبشر بلقاء الله.ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت فقال: «لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعمله» رواه أحمد في المسند عن أبى هريرة.نقول إن تمني الموت المنهي عنه هو تمني اليأس وتمني الاحتجاج على المصائب.. يعني يتمنى الموت لأنه لا يستطيع أن يتحمل قدر الله في مصيبة حدثت له.. أو يتمناه احتجاجا على أقدار الله في حياته.. هذا هو تمني الموت المنهي عنه.. أما صاحب العمل الصالح فمستحب له أن يتمنى لقاء الله.. واقرأ قوله تعالى في آخر سورة يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} سورة يوسف.وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي لا تتمنوا الموت جزعا مما يصيبكم من قدر الله ولكن اصبروا على قدر الله».وقوله تعالى: {والله عليم بالظالمين} لأن الله عليم بظلمهم ومعصيتهم.. هذا الظلم والمعصية هو الذي يجعلهم يخافون الموت ولا يتمنونه. اهـ.
|